روائح مدينة الإسفلت /قصة قصيرة
بقلم الأستاذ صالح هشام / المغرب ~~~~~~~~~~~~مهداة الى ابناء وادي زم الشهيد ة
الشمس مستقيمة الأشعة ،تربت على المخاخ التي تغلي كالمراجل ، في تجويف الأدمغة ، سديم يبحت عن مخرج في رؤوس تشتم رائحة شعرها يحترق. ! زخارف العجلات تلتصق بالإسفلت المسبوك ،علي أرضية تلك الأزقة الضيقة ، في عناد الصيف تتمنع الأرض على النعال والحوافر والأظلاف ! جهنم : وقودها الإسفلت والشعرالآدمي يحترق فوق الرؤوس المسطحة ، شعرة ،شعرة ،بتؤدة ومهل ، في يوم رمضاني قائض من أيام شهر غشت ! المدينة تحضنها هضاب الفوسفاط ،تكتم أنفاسها ،يشوى سكانها ،أسماك فوق اللهب ! قطرات زيت في مقلاة ساخنة ، حرارة مفرطة تشفط الأجساد النحيلة المترهلة ، تتعرق : قطرة ،قطرة ،ثم قطرات و تنتشر رائحة العرق !( أباة الضيم شم العرانين) لا يغريهم بحر ولا نهر ! يصومون ليوم وقوده الناس و الحجارة ،صيامهم صعب وشاق ، يمتص من أجسادهم الماء المذخر إلى آخر قطرة ! تجف البشرة ،تتشقق الوجوه ! يقفزون فوق العمر بعشرات السنين !
تتكسر أشعة الشمس الحارقة : خيوطا زجاجية شفافة ، ينعكس عليها النقع الأحمر الفوسفاطي ،يغمرها الغبار الكثيف ، تلهو بها ريح لولبية ، عنيفة ،أشبه بالإعصار ، تتلاعب بغربان البلاستيك السوداء وما تجود به مزابل شاسعة تسد عين المدينة ، في انتظار مطرح جديد قد يأتي أو لا يأتي ! الأرض جسد كائن يموت ببطء ، يمتص الحرارة ، ويزفر ريح (الشرقي) الحارة : شولة عقرب هائج تلذغ جلودا متشققة مرهقة ، الزفرات تعبد الطريق للكلام و لا تغير من واقع مدينة جهنم شيئا . الدقائق أعوام طويلة ثقيلة حد الاختناق ، ربما يحل فيهم شيء من روح( مرنوش )أو (يمليخا) كل رمضان ! ثعابين تلوذ بظل تلك البيوت الملتهبة، يشتعل منها السقف والجدران ، هي أشبه بنواة بركان ! هي قلب جهنم إذن !
تتكسر خيالات البنايات الحمراء فوق الإسفلت المسبوك ، تستدير وتتربع وتستطيل ،تأخذ جميع الأشكال ، تفقد الأشياء ظلالها !
تغادر السحنات القمحية ، المتشققة جحورها ، وتدب الحياة نسبيا فوق الإسفلت ، ترتسم النعال بمختلف مقاساتها وأشياء أخرى فوق الأرصفة !
بعيد صلاة العصر تمتزج روائح ، من أنواع مختلفة : روائع (القزبر والبقدونس ) بالتوابل الطيبة و(برأس الحانوت)! تختلط روائح الحريرة بروائح الشباكية (المخرقة ) تتضوع المدينة بنكهة رمضانية خاصة ! تبعث مدينة لوط من أعماق البحر الميت كالعنقاء من تحت الرماد وتحيا من جديد ،يسرح سكانها كالنمل، يهيمون في البحيرة يطلبون ظلا وارفا يلطف الجو وينعش النفس ! تتنفس باريس الصغيرة برئة واحدة ،هي أصلا أحادية الأعضاء : رئة واحدة وكلية واحدة ونصف قلب وترى بعين واحدة، نصفها الثاني سرقه لصوص الميزانيات وسماسرة السياسة ، تعيش مشلولة ، مكتوفة بين صهد الشمس الحارة (الحرنة ) وصهد رياضة الأصابع منذ عقود من زمن العهر السياسي الرديء ! مدينة لوط ، تقتات على مواعيد عرقوب ، وتعيش على الوهم ، وتتمسك بالأمل ، بإصرار تنتظر الفرج ، واقع مر متمكن منهم كالحزام من الخصر ،إبرة مغروزةبين المخ والمخيخ ! ما عادوا يشعرون بشيء ، ما عادوا يهتمون بشيء ،نطق السين يشعرهم بالغثيان : خردولة (بسبع خضر ) أو قطعة لحم محمرة مدفونة في طبق كسكس ،حلم بسيط جميل : يجعلهم يقبلون ظهر اليد وباطن الراحة ويحمدلون كثيرا . طبق الكسكس لحمة الأسرة ،حبل متين يعتصمون به من الرضيع إلى الجد ! فطور صيام رمضان : كأس شاي منعنع ، زلافة حريرة ، وبضع ثمرات طيبات ، وجرعة ماء تسد فوهة فرن العطش اليومي !
أمي عيشة ، تعودت عدم إغلاق بابها ! ،كل أبناء الدرب أبناؤها من العشريني إلى الخمسيني ! ترضع الأولاد حليبها حولين كاملين ، تحتوي تخوف أمهات شابات من الرضاعة عند كل ولادة ، يقصدن أمي عيشة لحمايتهن من ترهل الأثداء الذي يجلب الضرة لا محالة ، معينها لا ينضب ، حليبها غيث مدرار : بركة من الله ، أيقونة ،ولدت وجف رحم الزمن لن ينجب مثلها مرة ثانية ، عجوز بدأ ظهرها يتقوس ، وآلام الركبتين ،والنقرس يستنفد منها قاموس التدمر والتضجر ، وتسلم أمرها لله ! التجاعيد حفر أخدودية عميقة في وجهها ، ولكنها بقلب شاب مرح ، تحن للماضي الجميل : أنامل المرحوم تسرح وتمرح على مهوى القرط منها وكلماته البعيدة الباهتة صدى ذاكرتها الصدئة يدغدغ طبلة أدنها ! تزيل غطاء الرأس ،تشع ألياف حريرية ثلجية نورا، تدخل نوبة شبقية تتحدى الشيخوخة والهرم : انثى الأيائل في شهر مارس ! نتحول هواما صغيرة تحوم حول ضوء شمعة باهت ،يمتصه نور الشمس !
تترك بابها مفتوحا ،جاراتها لا يتركنها للحظة دوما يثرثرن : ( الناس معادن ) وأمي عيشة معدن ذهب، قلب كبير قادر على احتواء أشباح مدينة الأشباح ،روائح حريرتها الزكية تسيل اللعاب ، تكثر من البقدونس والسمن الحار ، تقول : إن السمن الحار يطهر الأمعاء من الطفيليات ! أما طاجين (سبع خضر ) يجعل الرجال يعيرون نساءهم ، بفوضى الطبخ، ربما يكونون على حق : يرمين القفة كاملة في طنجرة ماء مملح ولا يحترمن أصول طهي الطعام !
وأمي عيشة (لالة ومولاتي ) تنسج خيوط الذهب من جرزة أو قطعة يقطين مع بهارات قليلة . صبورة لا تخاف جهنم شهر غشت ، تتفن في تهييء (طويجنات : سبع خضاري) هذه الأكلة الشهية أيقونة العشاء في شهر رمضان الساخن !
من الباب وعبر الشقوق تتسرب روائح التوابل والزعفران والخضر الطرية في رحلة مكوكية تدغدغ الأنوف، تنهش الأمعاء و المعدة الفارغة ، في يوم طويل ، ثقيل بجوعه وعطشه، وحرارة مفرطة تجفف ينابيع الحياة في الأجساد المتعبة . هذه الروائح الجميلة تجلب ذوي القلوب الضعيفة ،كالجيفة تجلب السباع والضباع وكواسر الفضاء ، يحط ذلك النسر ، قرب باب منزل أمي عيشة ، ركبتاه متنافرتان ، رأسه مفلطحة مغطاة بخرقة بالية ،غاب لونها ، يرتدي مائة ورقعة ، وينتعل مداسا فقد وزنه الأصلي ، يتلاعب بعلبة حليب نيدو يجمع فيها الحريرة ،عيناه تتجولان في عقر بيت أمي عيشة ، تقتنصه أعيننا رغم الحر القائظ ، والعطش، نصيح و نستفزه :
-وا ،، بو كميلة !!وا،،،بوكميلة !! وا،،بو كميلة !!
يقذفنا بالأحجار ونحن كالفئران نشرئب بأعناقنا من زوايا الزقاق وفتحات أبواب شبه موصدة ، تحمر عيناه وتظهر فقاعات هوائية على شفتيه المتشققتين ، يغيب المسكين في نوبة غضب هستيرية ، يتوعد ويلعن ،ونحن نمعن في استفزازه:
- واجميلة ! وابوكميلة ! واجميلة ! وا بوكميلة .!
تسفز ذاكرتي هذه الشتيمة ! أما جميلة فقد فهمناها ، ربما كان يعشق امرأة اسمها جميلة ، لكن ما قصة (بو كميلة) ،يروي سكان حينا الهاديء :
-في يوم من أيام رمضان ، جذبت روائع قدر أمي عيشة هذا الذئب البشري ، كما تجذب الجيفة جحافل النسور ، تربص ببابها المفتوح ، ،انتهز (ولد الكلب ) غفوتها قبيل آدان المغرب ، بوقت قصير جدا ، تسلل داخل منزلها ، و سرق الكميلة من فوق النار ، وانسحب ، كالحنش دون أن يشعر به أحد . استيقظت أمي عيشة من غفوتها . ففوجئت باختفاء الكميلة ، وجدت بالقرب من مكانها صرة من القماش أشبه بالكرة التي نتقن صنعها من الجوارب ،فتحتها بوجل : حبة بصل ،كل قشرة ، بورقة نقدية زرقاء ،خرجت أمي عيشة وهي تعد قشور البصل / الأوراق الزرقاء وتصيح :
- يا عباد الله ! سكان المكان يشترون مني الكميلة ،بالنقود الورقية !
خردولة خضر بعشرات الأوراق الزرقاء !
اندهش الجميع وبدأت فكرة البركات تراود ضميرهم الجمعي ، فأمي عيشة ، لها بركة الحليب ، وربما لها بركات أخرى !
فجأة عاد ذلك الذئب الآدمي ، يحمل( كميلة) أمي عيشة ، والدموع تملأ مآقيه ، وارتمى على قدميها يقبلهما :
-أمي عيشة هذه كميلتك خذيها ! وأعطيني نقودي فهي كل ما أملك!
ربتت أمي عائشة على كتفيه وبابتسامة عريضة قالت :
-أتضيع ما في جيبك يا بني ، لتأخذ ما في جيب غيرك ؟!
للتوضيح : ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
-الكميلة : قدر معد للطبخ (gamelle)
-خردولة : مرق يشمل جميع انواع الخضر ،لا تخضع لمعايير الطبخ،
-الشباكية او الخرقة : نوع من الحلويات خص بشهر الصيام
-رأس الحانوت : جميع انواع التوابل في خلطة واحدة ،
-زلافة :آنية تستعمل للحريرة وهي أكلة مغربية مثل الحساء .
صالح هشام ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~الرباط المغرب
الرباط ~~~~~~~~~~~~~~~~الإثنين 26 اكتوبر 2015