قراءة نقدية بقلم الأستاذ صالح هشام/ المغرب .
التناص والرمزية في قصيدة (عيون عبلة ) .
للشاعر مصطفى الجزار من مصر العربية .
أشعر وأنا أقرأ نص (عيون عبلة) أن حوافر الأدهم ، تلوك تلافيف دماغي وصليل السيوف يصم أذني ومثار النقع يخنق انفاسي ! شوكة الانفصام يغرسها الشاعر مصطفى الجزار في نخاعنا الشوكي ،نعيش مرحلتين من تاريخ الوطن العربي: جاهلية النخوة العربية ! وخنوع وخضوع القرن الواحد والعشرين !، وكل مرحلة من
المرحلتين كما يتضح في ثنايا القصيدة إلا وتتسم بخصائص ومميزات تاريخية ، خاصة على مستوى الوعي بالوجود العربي الذي تختلف رؤيته بين الأمس واليوم ويكاد الشاعر ينهج نهج المقارنة بين متضادين متناقضين ، لكن ما يستنبط من هذه القصيدة أن التابث بين اليوم و البارحة هو عبس ، التي تعودت على الخذلان من العصر الجاهلي الى حدود كتابة سطور هذه القصيدة / الوثيقة يقول مصطفى :
*عبس
*تخلت عنك
*هذا دأبهم
هذه القصيدة عرت عورة عبس /القرن الواحد والعشرين ،الذين تركوا عنترة أقرب (للأيتام في مأدبة اللئام ) وتخلوا عن عبلة يغتصبها الغزاة ويغتسلون بدماء شرفها ،وعبس بشيبها وشبابها تسترق السمع من شقوق الأبواب ، وستائر حجرات النوم وهم يتلذذون بافتضاض بكارتها ، (عبلة / العزة /النخوة العربية) :
*فعيون عبلة أصبحت مستعمرة !
*فلا ترج بسمة ثغرها يوما !
*فقدسقطت من العقد الثمين الجوهرة !
، هي طبيعة عبس جبلوا على الخذلان والتقاعس وخيانة عنترة ، من صهيل الأدهم إلى أزيز محركات الهامر الأمريكية إلى ضجيج المركافا الارائيلية إلى هدير الطائرات ! من صليل السيوف إلى انفجارات القنابل العنقودية والانشطارية إلى البراميل المتفجرة وغيرها ! الكارثة واحد ة، والمصيبة واحدة ، والضحية واحدة ، فقط الاختلاف في الملابسات والظروف التاريخية !
الشاعر مصطفى الجزار تكلم و أفصح عن المكنون وعبر بكل جرأة وشجاعة وصاغ الجوهرة تلو الأخرى ورتبها عقد ا ثمينا ليوشح به صدورنا ،والذي يجب أن نستحقه من خلال تعدد قراءاتنا عادية كانت أو نقدية ! فالنص الإبداعي يستمد حياته من هذا التعدد و يحيى بفضل القراءة إذا كانت جادة ، تسبر الأغوار وتضع مشرط الجراح الماهر على العميق من جروح القصيدة ،في مرحلتها التاريخية سواء تعلق الأمر بالماضي أو بالمرحلة الراهنة ! هذه القصيدة إذن ، تستحق القراءة النقدية بدون أي شعور بالنقص والخجل من ذاك الماضي وهذا الحاضر الأليم ، لأننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نغطي عين الشمس بالغربال ،مهما كانت الحقيقة جارحة
ومهما كانت مرة ، ومهما كان النبش في الماضي شوكة تدمي حلوقنا ،وتؤلب علينا المواجع ، فإنه سيفيدنا في حاضرنا ،فلا حاضر بدون ماض والجدلية تبقى بينهما قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . و مهما حاولنا طمس معالم الحقيقة ، فإن حقيقة التقاعس وخذلان عنترة ستقض مضاجعنا ،ونحن في أحضان زوجاتنا عندما يستيقظ فينا الضمير الخامد ! ويفور الدم العربي في عروقنا ! هي الحقيقة كالجمرة المتقدة لايمكن القبض عليها بين الأصابع ،ولكننا مجبرون على ذلك شئنا أم أبينا !
هذه القصيدة فضحت المستور ،وعرت عورة عبس ووقفت على كذبة البطولة المزيفة في
داحس والغبراء) وشرحت (بتضعيف الراء) تاريخنا العربي النظيف ،كالخرقة البيضاء الخالية من أي وسخ، ونحن من عشاق اللون الأبيض وكل ما هو أبيض من العمامة إلى الكفن ،لم ولن تدنسه خربشات هؤلاء الشعراء الذين لا يفكرون إلا في نبش الماضي وتأليب المواجع !يقول المثل الشعبي المغربي (لا توقظ الغافل لضرب الحجر ) ، فعنترة
مات منذ زمان ولم يبق منه الإ الذكر في الكتب الصفراء ، فلماذا يحييه الشاعر فينا ؟!،نحن -العرب - نتطير من ذكره ومن ذكر كل ما يذكرنا به ؟! أهو الماضي يحكم سيطرته على مصائرنا ؟! أم أن الشاعر متعمدا ، وشماتة فينا : يستهدف إيقاظ أعشاش الزنابير وخلخلة خلايا الدبابير في دواخلنا نحن -أمة العرب ! دواخلنا سدت عن
آخرها و لم تعد قادرة على احتواء المزيد من فوضى الزنابير ، والدبابير ! عبس تحسن غض الطرف (اغضض من بصرك ) وغض الطرف من ادبياتها وسلوكها وأخلاقها ،لكن هذه اساطير الأولين ! الشاعر يريدها من خلال هذا النص أن تنظر حواليها أن تستفيق من سباتها البارد ، أن تتمعن ،أن تستفيد ، لم يعد غض الطرف يفيدها في شيء ، فعنترة خيالنا وسيظل ينقر على جماجمنا إلى الأبد ! هو خيالنا والإنسان ليس بمقدوره أن
يتخلص من خياله . سيلاحظ القاريء الكريم أن لساني رخو ورطب، مرن وطويل ، كمخ النخاع الشوكي ، ليس فيه عظم كما يقول عامة الناس ، لهذا فإني أترك له الحرية يصول ويجول في عالم الرمز والإحالة ويتسكع في عالم القوافي والأشعار ،من سوق عكاظ إلى صالونات الأدب في فنادق الخمس نجوم ، دون أن ألجمه ، بقواعد نقدية ، أو مواقف أدبية معينة ، ربما سأكون فطري النزعة في نقدي ، لا أخضع لمعيار أو مقياس نقدي معين أو لقيود نقدية تحد من حركتي وتشل تفكيري .
ربما لم أبتعد كثيرا ، فمصطفى الجزار ، شاعر ، لا يهمه إذا أحجموا عن تسميته ب( أشعر الشعراء ) أو (أهجاهم) أو (أغزلهم ) أو لم يحجموا ، وما دام لا يخاف ذلك فقد استعمل في قصيدته (دموع عبلة ) التناص أو التضمين الذي كان يخافه الشعراء القدماء لأنهم كانوا يعتبرونه انتقاصا من قيمتهم الشعرية ويضع رؤوسهم
ورؤوس غيرهم على مقاس واحد ، وتوظيف التناص في نظرهم هو إقرار بشاعرية الآخر ، وأنانيتهم تمنعهم من الإعتراف بغيرهم و بهذا الإقرار فركزوا على تناصص نصوصهم بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والحكم والأقوال المأثورة ، لأن في ذلك تقديس وتعظيم المهم ان لا يكون هذا التضمين من غيرهم من الشعراء .
سأركز في قراءة هذه (القصيدة /الوثيقة ) على عنصر التناص والرمزية لمجموعة من الاعتبارات الموضوعية التي ستتضح من خلال الاشتغال على هذين المقومين الفنيين : إن الشاعر مصطفى الجزار تعمد تداخل نصه (عيون عبلة ) بمعلقة عنترة بشكل واضح وبتقنية عالية سواء كان هذا التوظيف على مستوى السلب أو الإيجاب ، إضافة إلى تناصص محتويات القصيدة بأفكار ونصوص أخرى يمكن أن نستشف بعضها من خلال السياق
العام للقصيدة إما تاريخية أو قرآنية كما سنرى ، ولا يعتمد الشاعر في هذا التناص على عبارات أو في بعض الأحيان اعتماد صدور أو أعجاز من المعلقة ،وإنما يلجأ الى تداخل المراحل التاريخية فيلقي الضوء على الحاضر العربي الأليم من خلال الماضي الذي لا يخلو من خدلان وانتكاسات كبوات خطيرة ،من خلال( عنترة/ الأمس وعنترة /اليوم )وإن كان البون شاسعا بينهما m، كما سنرى في هذا التحليل ،إضافة إلى اعتماده على توظيف الرموز باعتبارها تضفي قيمة جمالية فنية مضافة إلى مستوى بناء القصيدة الشعرية ،وإلى مستوى
إيقاعها وصورها الشعرية التي بدونها لا ترقى هذه القصيدة إلى عالم الجمال الذي جبلت عليه الكلمة الشعرية منذ تغني الانسان باول تعبير شعري إلى اليوم ، واعتقد أني لن أكون فراهيدي النزعة فأغوص في عروض القصيدة من تفعلة و بحور شعرية وإيقاعات وما إلى ذلك .فلنترك هذه الأمور لنقاد متخصصين ونركز على إعادة بناء القصيدة وفق نظرتنا الخاصة ووفق تأويلاتنا وتحليلاتنا لأنها أصبحت ملكا لنا لا ملك الشاعر ،وقلت :نظرتنا الخاصة لأن النص مفتوح على تعدد القراءات وهذه خاصية الإبداع إن على مستوى الشعر أو النثر
خصوصا الفنون السردية ، فهناك ماهو أهم من أن أجري لا هثا وراء البحت عن الخصائص العروضية أو البحث في الشكليات ، لأن هذه الأمور الفنية تفرضها طبيعة القصيدة ، أعتقد أن القاريء الكريم فهم مقصودي وما أرمي إليه من ذلك ، فدراسة الشكليات يمكن أن تعرقل التحليل الذي نستهدف من خلاله تفكيك الرموز والإحالات وطبيعة الانزياحات وبلاغة الغموض التي تعج بها القصيدة الشعرية من ألفها إلى يائها .
مصطفى الجزار كرائد من رواد الشعراء الشباب ، الذين لا يشكل لهم التناص اي عقدة نقص كما هو الشأن للشعراء القدماء ، الدين اعتبروه سرقات ،وتفنن النقاد القدماء في اقتناص واصطياد كل ما يقع عليه بصرهم للإيقاع بالشاعر في عيوب السرقات الأدبية ،كل ما كان يقع فيه الشعراء من اخذ من نصوص غيرهم ولو على سبيل توارد الافكار ، عن طريق التأثير والتأثر كخاصية من خصائص التكوين المعرفي للإنسان بصفة عامة( يرى إليوت وماثيو أرنولد أن الشاعر يجب أن يعي أفضل ما كتب من شعر في عدد من اللغات منذ هوميروس إلى الوقت الحاضر "عبد الواحد لؤلؤة ") ، ونحن نعرف أن من شروط نظم الشعر كما سنها القدماء : هي أن يحفظ الشاعر أشعار غيره عند ذلك يؤذن له بقول الشعر فأبو نواس حفظ لستين شويعرا فما بالك بالشعراء ،
وهذا في حد ذاته تناقض صارخ ، فقد استأذن أبو نواس خلفا لنظم الشعر فأمره أن يحفظ كما هائلا من الأشعار ، فعندما حفظها عاد إليه وأخبره بالحفظ لكن خلف أمره أن ينسى ماحفظ ، وعند نجاحه في النسيأن سمح له بنظم الشعر يقول ابو نواس
ما نطقت بالشعر حتى حفظت لستين من شواعر العرب ،فما بالك بالشعراء )وقبله قال الشاعر الجاهلي
ما ارانا نقول الا معارا أو معادا من لفظنا مكرورا "عبد الواحد لؤلؤة "). هذا يعني أن أي إبداع هو توارد أفكار ولا يمكن أن يأتي من فراغ فالإبداع البشري ليس وحيا ينزل من السماء .
هذه الإشارات ضرورية ولابد منها لأن الظلم كان يتعرض له الشعراء من طرف النقاد فلا يعقل أن يحفظ شعر غيره ولا يوظفه في قصائده ولو على سبيل التداعي وتوارد الأفكار ، لكن أشير هنا إلى أن الكثير من النقاد يعتبرون التناص قيمة فنية إبداعية غربية ، متناسين أن هذه الخاصية الإبداعية ، فقط اختلفت من عصر إلى آخر من حيث التسمية لا أقل ولا أكثر ، مصطفى الجزار لا يقل أهمية عن (إليوت) وعن (بدر شاكر السياب) ،الذين
ازدهر التناص في كتاباتهم الشعرية ، لأنه أصبح قيمة فنية ترفع الشاعر إلى مراتب العلماء الموسوعيين في عالم المعرفة ،وتوظيف التناص يدل على هذه المعرفة التي تستوجب التهميش في القصيدة تعميما للفائدة أثناء القراءة ، خصوصا عندما يقومون بتهميش قصائدهم بمصادر النصوص التي تتناص مع قصائدهم الشعرية فلا يعقل أن يقع تناصص القصيدة الشعرية مع نصوص يجهلها الشاعر . والمعرفة هنا تتجلى في تقنية الشاعر مصطفى الجزار الرائدة في توظيف التناص المقصود والذي اشتغل عليه ولم يأت تواردا لأفكار . وقد وظف بتقنية غاية في الإبداع والخلق .
والتناص هنا لايقتصر على تداخل (القصيدة / بالمعلقة )،وإنما التداخل يمس مرحلتين ،من مراحل تاريخ الأمة العربية ، مرحلة جاهلية العرب وقد تخلت فيها عبس عن عنترة رمز النخوة العربية والبطولة لأنه في نظرهم سيلوث تاريخهم النظيف فهو ابن زبيبة وإن كان من صلب سيد القوم شداد فلونه يحول بينه وبين السيادة ، قال أبو فراس الحمداني وهو في أسره عند الروم معاتبا قومه :
سيذكرني قومي إذا يجد جدهم ~~~~وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
عندما سطا الغزاة على عبس قالوا لعنترة :
-كر فأنت حر !!
كر عنترة وفر وكر وانتصر، فرفع راية عبس ، وناصروه مكرهين وعلى مضض ، لأن الأنانية ، والشرف المزور سيمنعهم من الاعتراف به كسيد أسود كيف يصح ذلك وهو ابن زبيبة الحبشية ،، يتجلى ذلك في خلق العراقيل لإبعاده عن عبلة ، أما المرحلة الثانية فهي أشبه بالبارحة من حيث التخلي عنه يقول الشاعر :
*عبس .
*تخلت عنك .
*هذا دأبها .
تخلت عبس عن عنترة ، وتركت عبلة تحت رحمة غاصبها ، غاصب العروبة والنخوة الجاهلية ،هذا الغاصب مدت أمامه القناطر ، وعبدت أمامه الطريق وأصبح الممر سالكا ومباحا لافتضاض بكارة النخوة العربية
يقول الشاعر :
*فالزحف موج
*والقنابل ممطرة
*وحصانك العربي
*ضاع صهيله بين الدوي
*وبين صرخة مجبرة ،
لم يعد للأدهم القوة على التصدي للقنابل ، فضاع صهيله بين الدوي و في فنادق المؤتمرات العربية الفارغة التي عودتنا على انها تنتهي قبل أن تبدأ وحتى إذا اكتملت فإنها تضع لبنات للفرقة والاختلاف ،ولم يعد لبان الأدهم قادرا على التصدي للرماح / القنابل .
*يدعون عنتر والرماح كأنها ~~~~~~~~أشطان بئر في لبان الأدهم ،
فما على رمز البطولة العربية ، إلا أن يكفكف دموعه لأن الدموع لم تعد تفيد في زمن تحجرت فيه القلوب وتسربلت فيه الهمم بالعار وغاصت في الخزي :
*كفكف دموعك .
*وانسحب يا عنترة .
*فعيون عبلة أصبحت مستعمرة .
وللدلالة على ما أصاب عبس من خزي وعار ، يأبى إلا أن يوظف تضمينا من القرآن الكريم ، نستشفه من خلال المعنى ، وفيه لفظا ما يدل عليه وبقوة لان ذهن القاريء ينصرف تلقائيا إلى الآية الكريمة (واخفض لهما جناح الدل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا )
يقول مصطفى الجزار :
*واخفض جناح الخزي .
*وارج المعذرة ،
وأقسى ما يمكن أن يتصوره الإنسان من إذلال ،و إهانة ،هو أن تخفض جناح الخزي ، فخفض جناح الذل لا يكون إلا للوالدين مصداقا لقوله تعالى
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ..) والانسحاب وكفكفة الدموع لا تقل أهمية عما ذكر ، هي إذن صورة أليمة تبرزها هذه القصيدة الشعرية ،التي اعتبرتها وثيقة ، لأنها فعلا تؤرخ لمرحلة أوج الانكسار العربي ، والهزيمة على مستوى الداخل والخارج .
إليوت الانجليزي اشتهر بحبه الشديد لرواد الرمزية الفرنسية ، فقد كان يشير إلى بعض العبارات من أشعار رامبو وبودلير وهدفه من ذلك كشف سعة اطلاعه للقاريء ودفع تهمة السرقة عنه كما يسميها العرب القدماء ، وفي التوظيف للتناص قوة وإبداع للنص الشعري . الشاعر مصطفى الجزار يضمن نصه عبارات من القرآن
الكريم (واخفض ) وهو خير ما يمكن أن يتداخل بنص الشاعر ، ليس في شعر مصطفى الجزار فحسب وانما لما كان له من أهمية كبرى في تضمينات النقاد القدماء ، فكان التضمين يرتكز أساسا على القران الكريم والحديث النبوي الشريف والأقوال المأثورة ، ويمكن أن نشتم التناص الذي يوظفه الشاعر مصطفى الجزار بذكاء الشاعر
الواعي بسيرورة قصيدته الفنية من خلال تلك الإشارات وتوظيف كلمات من سياقات ذات طابع تاريخي لا يخفى على أحد ، والسيف لم يعد قادرا على درء وابل القنابل ، وان كان في عهد أبي تمام :
السيف أصدق انباء من الكتب ~~~~~~~~~~في حده الحد بين الجد واللعب
فالسيف لم يعد سيف المعتصم وما عبلة "عربية عمورية" ، هنا فقد السيف الهوية (النخوة العربية ) والقوة (ضعف الأمة العربية ) والسيطرة (خرج زمام الأمور من أيديهم ) ، كيف لا وعنترة يؤمر بتقبيل سيوف الغزاة الغاصبين الذين عبدت لهم عبس الطريق ليعيثوا فسادا في الكرامة العربية ، وفي الارض العربية :
*قبل سيوف الغاصبين
*ليصفحوا
*واخفض جناح الخزي .
لم يعد عنترة قادرا على فعل شيء ، فما عليه الا ان يكفكف دموعه وينسحب ، ونحن نعرف ما لكلمة انسحاب من أهمية قصوى في قاموس الهزائم ، خصوصا وان( عبلة/العربية) لم تعد قادرة على أن تبتسم ولم تعد قادرة
على أن تمنحك ولو بسمة واحدة ، فقد اندحرت( عبلة / الكرامة) على محراب الذل والمهانة :
*فعيون عبلة أصبحت مستعمرة
*لا ترج بسمة ثغرها يوما .
لن يتكرر طلب النجدة مرة ثانية من المعتصم ولن تصيح عبلة واعنترتاه ! وامعتصماه ! فالتاريخ يعيد نفسه لكن عندنا فقط في الهزائم والانكسارات أما في الانتصارات فاننا نبرر مواقفنا المتخاذلة بقولنا : (لا نستحم في النهر مرتين ) لم تعد مفاخر عنترة الا أشعارا أو كلمات من الماضي السحيق فما عليه إلا أن يدفنها في صدره فهي امجاد ومفاخر قديمة عفى عنها الزمان كما عفى عن آثار نجعة عنترة وعبلة ، لن تفيد في شيء وعبلة في
العراق تهان راكعة تحت أقدام الغزاة ، وفي فلسطين تدوسها أقدام الكلاب وفي سوريا تخر كل يوم صريعة فوق جسد ابنها الصغير وحلمتها في فمه ، عبلة في كل جزء من جسم الوطن العربي المتخن بالجراح تداس كرامتها ويجرح كبرياؤها ، ويدنس شرفها بقوة الحديد والنار ، فماذا ستخسر يا عنترة ؟! أرسل لها اعتذارا وتأسفا
وذكرها بالصحراء والنجعة والانتجاع والليالي المقمرة فيي ربوع الصحراء العربيية يقول :
*وابعث لعبلة في العراق تأسفا ،
*وابعث لها في القدس قبل الغرغرة .
*واكتب لها ...
*ما كنت تكتبه تحت الظلال
*وفي الليالي المقمرة .
، فلم يعد لك من نوق حمر تقدمها لها مهرا لم تعدأهلا لمهرك هذا .فقد دنسها الغزاة الغاصبون ، الذين أصبحت يا عنترة تقبل أحذيتهم وتطلب الصفح والغفران ، فقد خذلتك عبس وخذلت الأدهم الذي ضاع صهيله تحت أقدامهم وتملق الذين باعوك ! الشاعر مصطفى الجزار يأبى إلا أن يسترجع الماضي ، الجميل زمن العزة
والكرامة ، فما على عنترة إلا أن يعود إلى الماضي ليتغنى بالأمجاد القديمة ، وهذه ليست غريبة على عبس فهم مهووسون بأمجاد الماضي ، يعشقون أن يعيشوا في جلابيب أجدادهم يقول الشاعر :
*ليس الفتى من يقول كان ابي ~~~~~~لكن الفتى من يقول ها أنذا
إنهم عباقرة الانفصام في التفكير والرؤية وفي كل مظاهر الحياة :
*اجمع مفاخرك القديمة كلها
*واجعل لها من قاع صدرك مقبرة .
عوراتهم عارية طفل صغير رضيع سقط منه القماط ، ورغم ذلك لا يخجلون ، لم تعد دار عبلة على سابق عهدها في زمن الانكسارات العربية ، أقفرت بابل العراق ، موظفا اسلوبا استفهاميا استنكاريا ، فهو يستنكر ما آلت اليه أحوال العرب ،طبيعة عبس الخذلا ن والتخلي ، والخنوع والخضوع ،(يا فارس البيداء........هذا دأبهم
) وكان الشاعر يستنجد بعربي الجاهلية ، بعنترة الرمز . الذي كان يأسر الجيش لوحده ، لكنه اليوم لم يعد قادرا على فعل شيء يذكر .فالأدهم الذي أصبحت تحاصره القنابل وارتال الدبابات ضاع وسط حمأة الخراب ،ونعق غراب البين بين الماضي والحاضر ، تتجلى مهارة الشاعر الرائعة في توظيف التناص على ثلاث مستويات ،
يتجلى المستوى الأول كما سبق الذكر في توظيف أجزاء من البيت الشعري في المعلقة ،وقد وظف صدور الأبيات وعندما نعود للمعلقة وقصيدة مصطفى ونقارن نقف عل حقيقة ما ذهبت إليه ، أما المستوى الثاني فإنه يضمن كلمات فقط لكن لها دلالات تاريخية كبيرة ، توحي بالنص الاصلي المتضن منه أو المقتبس منه ، كقوله :
*فاتى العدو مسلحا بشقاقهم
*ونفاقهم
*فاقام فيهم منبره ،
وربما عمد الى هذا التوظيف من خطبة الحجاج ابن يوسف الثقفي وهو يلقي خطبته الشهيرة في أهل العراق
يا أهل العراق والشقاق والنفاق ومساويء الأخلاق ) أليس هذا تضمينا واضحا بينا ولا غبار عليه ، والكلمتان فقط توحيان بفترة تاريخية كبيرة ، وهذا توظيف ذكي ، جدا لأن الشاعر ، يعطينا بصيصا من النور ، لكنه أشبه
بضوء الحشرة المضيئة في الليالي الحالكة ، في كثير من الأحيان مايأخذ البيت أو السطر الشعري شهرته من إحالة جد بسيطة ، فأنا كقاريء مباشرة ، غاص تفكيري كله في التاريخ الدموي للحجاج ابن يوسف الثقفي ، وكذلك عندما يضمن نصه الشعري عبارات واضحة من القرآن الكريم يقول الشاعر :
*من يقترف في حقها شرا
*يره
أيضا هذا التضمين بين للعيان ، تكون العبارة كضوء المصباح في يدك ، تأخذك مباشرة الى حيت المعنى او النص الاصلي الذي اقتبست منه العبا رات المتضمنة ، لا اريد في هذه المقالة ان اعد كل مظاهر التناص ،وإنما آخذ بعض المقتطفات للتدليل على ما ذهبت إليه ، في تحليلي هذا ، أما التناص الثاني وهو الذي يمكن أن نستشفه
من خلال سياق القصيدة ككل ،فقد عمد إلى تداخل مرحلتين مختلفتن ، على سبيل التناقض وليس التوافق في الدلالات ، فمرحلة الجاهلية العربية بكل بطولاتها ، ورمزيتها ، حيث كان مسكن الفارس فوق ظهر جواده ، أما المرحلة الثانية ، فهي مرحلة الانكسارات والهزائم العربية ، بكل تجلياتها ، وما عنترة إلا للتذكير ، بما آلت إليه
أحوال الأمة العربية ، فالنص غني إلى حد التخمة بالدلالات الرمزية والتناص بمختلف أنواعه وأشكاله ، ولا يفوتني في هذه المقالة أن أنوه بالتوظيف الجميل والرائع للغة الانزياح ، اذ لم يكن على مستوى خرق المألوف كما ألفنا ذلك في النصوص الشعرية بصفة ، إذ غالبا ما يكسر الشعراء المألوف اللغوي من خلال النظم والإسناد
أي اعتماد المجاز والاستعارات والتشابيه ، وكل الأشكال التي تجعل من لغة الشعر لغة راقية وجميلة ، وتساهم في خلق الصورة الشعرية ، الشاعر هنا نهج نهجا آخر وهو انزياح المواقف ، والأحداث التاريخية ، ومقارنتها بما سبقها على سبيل الاستفادة من الماضي ربما لتغيير الحاضر ، خصوصا وأنه يفتح أمامنا باب الأمل ،ويزرع فينا حب التطلع إلى المستقبل الذي ربما سيكون زاهرا وما ذلك على الله سبحانه بعسير :
*وعيون عبلة لا تزال دموعها
*تترقب الجسر البعيد
*أن تعبره
لازال هناك وقت للعبور ، وتحقيق الغذ الأفضل ،لي مؤاخذة بسيطة على الشاعر الكبير الذي أمتعنا بهذه الملحمة التاريخية الشعرية ، لا أدري لماذا يستعمل عيون عبلة ، فاذا كان على سبيل المجاز الذي لم أتمكن من تفكيكه ، فله علي حق أما إذا كان يقصد العينين على المستوى الحقيقي وجبت التثنية لا الجمع ،مزيدا من التألق ايها الراقي، دمت خادم الكلمة الشعرية الرائعة وان سكت كلامك عن الكلام في هذه القصيدة لكني على يقين بأنك ستتكلم .
بقلم الاستاذ صالح هشام~~~~~~~~~~~~~~~~~~الرباط/المغرب
النص المعتمد للنقد والتحليل (عيون عبلة ) للشاعر مصطفى الجزار /مصر
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
كَفْكِفْ دُمُوعَكَ..
وَانْسَحِبْ يَا عَنْتَرَهْ
فَعُيُونُ عَبْلَةَ أَصْبَحَتْ مُسْتَعْمَرَهْ
لا تَرْجُ بَسْمَةَ ثَغْرِهَا يَوْمًا..
فَقَدْ سَقَطَتْ مِنَ العِقْدِ الثَّمِينِ الجَوْهَرَهْ
قَبِّلْ سُيُوفَ الغَاصِبِينَ..
لِيَصْفَحُوا..
وَاخْفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ..
وَارْجُ المَعْذِرَهْ
وَلْتَبْتَلِعْ أَبْيَاتَ فَخْرِكَ صَامِتًا..
فَالشِّعْرُ فِي عَصْرِ القَنَابِلِ.. ثَرْثَرَهْ
وَالسَّيْفُ..
فِي وَجْهِ البَنَادِقِ..
عَاجِزٌ..
فَقَدَ الهُوِيَّةَ.. وَالقُوَى.. وَالسَّيْطَرَهْ
فَاجْمَعْ مَفَاخِرَكَ القَدِيمَةَ كُلَّهَا..
وَاجْعَلْ لَهَا مِنْ قَاعِ صَدْرِكَ.. مَقْبَرَهْ
وَابْعَثْ لِعَبْلَةَ فِي العِرَاقِ تَأَسُّفًا
وَابْعَثْ لَهَا فِي القُدْسِ قَبْلَ الغَرْغَرَهْ
اكْتُبْ لَهَا..
مَا كُنْتَ تَكْتُبُهُ لَهَا تَحْتَ الظِّلالِ..
وَفِي اللَّيَالِي المُقْمِرَهْ:
(يَا دَارَ عَبْلَةَ) بِالْعِرَاقِ (تَكَلَّمِي)..
هَلْ أَصْبَحَتْ جَنَّاتُ بَابِلَ مُقْفِرَهْ؟!
هَلْ نَهْرُ عَبْلَةَ تُسْتَبَاحُ مِيَاهُهُ..
وَكِلابُ أَمْرِيكَا تُدَنِّسُ كَوْثَرَهْ؟!
يَا فَارِسَ البَيْدَاءِ..
صِرْتَ فَرِيسةً..
عَبْدًا ذَلِيلاً أَسْوَدًا مَا أَحْقَرَهْ!
مُتَطَرِّفًا..
مُتَخَلِّفًا..
وَمُخَالِفًا..
نَسَبُوا لَكَ الإِرْهَابَ..
صِرْتَ مُعَسْكَرَهْ
عَبْسٌ..
تَخَلَّتْ عَنْكَ..
هَذَا دَأْبُهُمْ..
حُمُرٌ -لَعَمْرُكَ- كُلُّهَا مُسْتَنْفِرَهْ
فِي الجَاهِلِيَّةِ..
كُنْتَ وَحْدَكَ قَادِرًا..
أَنْ تَهْزِمَ الجَيْشَ العَظِيمَ وَتَأْسِرَهْ
لَنْ تَسْتَطِيعَ الآنَ وَحْدَكَ قَهْرَهُ..
فَالزَّحْفُ مَوْجٌ..
وَالقَنَابِلُ مُمْطرَهْ
وَحِصَانُكَ العَرَبيُّ..
ضَاعَ صَهِيلُهُ..
بَيْنَ الدَّوِيِّ..
وَبَيْنَ صَرْخَةِ مُجْبَرَهْ
(هَلاَّ سَأَلْتِ الخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ)..
كَيْفَ الصُّمُودُ؟!
وَأَيْنَ أَيْنَ المَقْدِرَهْ؟!
هَذَا الحِصَانُ..
يَرَى المَدَافِعَ حَوْلَهُ مُتَأَهِّبَاتٍ..
وَالقَذَائِفَ مُشْهَرَهْ
(لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى)..
وَلَصَاحَ فِي وَجْهِ القَطِيعِ وَحَذَّرَهْ
يَا وَيْحَ عَبْسٍ..
أَسْلَمُوا أَعْدَاءَهُمْ مِفْتَاحَ خَيْمَتِهِمْ..
وَمَدُّوا القَنْطَرَهْ
فَأَتَى العَدُوُّ مُسَلَّحًا بِشِقَاقِهِمْ..
وَنِفَاقِهِمْ..
وَأَقَامَ فِيهِمْ مِنْبَرَهْ
ذَاقُوا وَبَالَ رُكُوعِهِمْ وَخُنُوعِهِمْ..
فَالْعَيْشُ مُرٌّ..
وَالهَزَائِمُ مُنْكَرَهْ
هَذِي يَدُ الأَوْطَانِ تَجْزِي أَهْلَهَا..
مَنْ يَقْتَرِفْ فِي حَقِّهَا شَرًّا..
يَرَهْ..
ضَاعَتْ عُبَيْلَةُ..
وَالنِّيَاقُ..
وَدَارُهَا..
لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ بَعْدَهَا كَيْ نَخْسَرَهْ
فَدَعُوا ضَمِيرَ العُرْبِ..
يَرْقُدُ سَاكِنًا فِي قَبْرِهِ..
وَادْعُوا لَهُ..
بِالْمَغْفِرَهْ..!
عَجَزَ الكَلامُ عَنِ الكَلامِ..
وَرِيشَتِي..
لَمْ تُبْقِ دَمْعًا أَوْ دَمًا فِي المِحْبَرَهْ
وَعُيُونُ عَبْلَةَ لا تَزَالُ دُمُوعُهَا..
تَتَرَقَّبُ الجِسْرَ البَعِيدَ..
لِتَعْبُرَهْ..!
شعر/ مصطفى الجزار/ مصر
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
هذه روابط القراءات
https://www.facebook.com/mostafa.algazzar.poethttps://www.youtube.com/user/mybox4https://soundcloud.com/m
