قصة قصيرة_______ الوِزْر..
ترجل من حافلة الركاب التي توقفت في طريق مقفر..نفض عنه الغبار ..أصلح هندامه ..علق حقيبته على كتفه..واتجه نحو الشجيرات ...كان الليل قد أرخى سدوله والظلام يلف المكان..تدوس أقدامه أوراق الشجر المتساقطة...فيسمع خشخشاتها ويلتفت ذات اليمين وذات اليسار بحذر وهلع،بعد هنيهة تراءى له ذاك البيت المتهالك..كان يقبع فوق هضبة مرتفعة، وسط بيوت متناثرة في تلك القرية الصغيرة.. تعالى نباح الكلاب دفعة واحدة
..ينبئ أهلها بقدوم زائر غريب،اقترب بحذر من المنزل ودفع بابه الحديدي برفق ..فأحدث صريرا عاليا،نظر إليه الكلب الرابض في فناء المنزل دون أن يعترض طريقه.
طرق الباب الداخلي للبيت عدة مرات ..حتى خيل إليه أنه قد خلا من سكانه..أجابه صوت طفلة :
_ من الطارق؟ تهلل وجهه وأجابها بحنان:
_إنه أنا حبيبتي..قفزت الطفلة الصغيرة فرحا وصاحت :
_أمي...جدي..لقد جاء أبي..!
خرجت طفلة أخرى تركض صوب الباب وتفتحه بسرعة...وما لبثت أن ارتمت في أحضان والدها وهي تبكي..انضمت إليها أختها الصغيرة وعانقت أباها بحرارة ،ضمهما الأب بحنان وهمس :
_ لقد اشتقت إليكما كثيرا حبيبتيّ..!
هب واقفا حين رأى زوجته وصهره قادمين، اتجه نحوهما بعجلة ..جذب يد صهره فلثمها باحترام ..رمق زوجته بنظرات حانية وسألها بصوت هامس :
_كيف حالك؟ أشاحت بوجهها بعيدا.. لمحت ابنته الحقيبة وصاحت :
_هيا يا أبي نريد الحلوى..! نهرها جدها بقسوة قائلا:
_ دعيه يدخل..!
تبعه في صمت إلى حجرة الجلوس ، كانت كبيرة ..ذات سقف عال ..شبه خالية من الأثاث ..حصير ، وسائد وزربية مهترئة بهتت ألوانها ..ومائدة خشبية صغيرة..جثا على ركبتيه .. وفتح حقيبته ..هم بإخراج أكياس ا
-لحلوى،لكن يد ابنته امتدت بغتة وجذبت الحقيبة بحماس ..حتى تناثرت محتوياتها..أخذت كيس الحلوى وقبلت أباها شاكرة إياه ..وركضت إلى الغرفة المجاورة..سألته ابنته الصغرى وهي تحمل في يدها قارورة :
_ ماهذا يا أبي ..؟ حبات حلوى بلون وردي أليس كذلك.؟اختطفها الأب بسرعة وقال:
_لا ياحبيبتي إنه دواء للصداع..! وأعادها إلى الحقيبة..
نظر إلى زوجته الصامتة وقال:
_لا تدرين كم اشتقت إليكم..!
قاطعه صهره بإشارة من يده ،وأمر ابنته أن تحضر الشاي...ران صمت ثقيل ..لم ينبس أحدهما بكلمة..عادت تحمل صينية الشاي وتضعها فوق المائدة الخشبية بعنف حتى ارتطمت الكؤوس ببعضها...صب الشيخ الشاي ..ناول
صهره كأسا وما لبث هذا الأخير أن أعادها إلى مكانها..وتنحنح بارتباك وقال:
_لقد وجدت مسكنا جميلا ..حتما سوف يحوز إعجابك..!
صعقت زوجته وقالت بحدة:
_وهل تظن أني سوف أرافقك إليه..؟ لا بد أنك جننت..! رد بتوسل:
_لقد انتظرتك عدة أشهر،حتى تليني وتهدئي ..ونلم شملنا كما كنا أسرة سعيدة..! نظر إلى صهره وتابع :
_أرجوك يا والدي ..
رمقه الشيخ بنظرات حادة مستنكرا أن يدعوه والدي..تراجع وتابع باستعطاف :
_عمي الحاج أرجوك أقنعها بالعودة معي..!
أجابه بغضب هادر:
_ ألم تدرك بعد أننا صرنا أعداء..! أجننت حتى تأتي إلينا طالبا الصلح..!
أحنى الرجل رأسه وقال بألم وحزن :
_ليس لي ذنب في ذلك الحادث..!
قاطعته زوجته بحدة :
_بل أنت المذنب..أتذكر يوم أخبرتني وأنت في قمة السعادة بأن أخاك المدمن يريد الزواج..وأنك اخترت أختي..عروسا له..! طأطأ رأسه وقال :
_نعم اقترحت الأمر..لأني كنت أعلم مدى حبك لها فأردت إسعادك بجعلها قريبة منك..! أجابته بكراهية :
_نعم كنت تريد إسعادي..بل كنت تريده أن يتعقل ويستقر لكنه لم يكن إنسانا..لقد كان مجرد وحش،قدمت شقيقتي الوحيدة قربانا له،أردفت بحزن :
_لم أكد أسعد بقربها مني حتى قتلها أخوك المجرم..! هز رأسه بحزن وقال :
_كان مجرد حادث..! قاطعه الشيخ غاضبا :
_لم يكن حادثا بل كانت جريمة..الكل كان يعلم أن أخاك مدمن لا رجاء منه ..إلا أنا سلمتها بيدي هاتين لتلاقي حتفها هناك في بيتكم.!.
قال الرجل مرتبكا:
_ذاك اليوم أسود.. ابنتك ماتت وأخي سُجن..مجرد شجار بسيط ..تحول إلى مصيبة زلزلت كياننا جميعا..دعونا ننسى الماضي ..ونلملم جراحنا..! هب الشيخ واقفا وقال بحزم:
_لقد انتهى الأمر منذ ذاك اليوم المشؤوم..لقد تركتك تدخل بيتي فقط مراعاة لمشاعر ابنتيك..!والتفت إلى ابنته وقال :
_أخبريه قرارك الأخير..حتى يفهم ويدرك.! رفعت رأسها بعزم وقالت :
_بعد أن تطلقني سوف أتزوج ابن عمي..هذا قرار العائلة وأنا أوافقهم الرأي ..!
هاله ماسمع.. وارتمى على قدميها باكيا متضرعا.. وصرخ :
_لا تحطميني أرجوك سامحيني إن أخطأت في حق أختك، ابتعدت عنه بقسوة ..وتراجعت إلى الوراء وقالت :
_ لقد انتهى كل شيء يوم قُتلت أختي ودمها سيبقى بيننا إلى الأبد..!
خرج الشيخ وابنته من الغرفة وتركاه غارقا في بكائه و نحيبه.. بعد برهة انتفض كطير ذبيح ..وخرج إلى فناء البيت ..نادى ابنتيه ..هرعتا إليه فعانقهما بحرارة ..حمل حقيبته على كتفه،. ثم أحنى رأسه وهم بالرحيل ..نادته زوجته قائلة بصرامة :
_لا تتأخر في إرسال ورقة طلاقي..إذا أردت زيارة البنتين ..أعلمني بالأمر في المرة القادمة ..ولا تأت بغتة هكذا.
غمغم بحزن وهو يشق طريقه خارج البيت :
_ لن تكون هناك مرة قادمة..!
مشى بخطوات يائسة حتى وصل إلى حافة الطريق ..اتكأ على جذع شجرة مائلة منتظرا مرور الباص ..
بعد لحظات كان على متنه ينظر إلى تسارع الشجيرات من النافذة ..أحس أنها تفر منه هي الأخرى..شعر أنه منبوذ من كل شيء حتى من الهواء الذي يأبى أن يملأ رئيته.. وتركه مخنوقا يجثم الألم الدفين على أنفاسه.
بعد برهة وصل إلى المدينة..نزل بوهن كأنه شيخ هرم وأوقف سيارة أجرة..تهالك على المقعد دون أن ينطق بكلمة..تفحصه السائق بفضول وسأله بصوت خشن:
_إلى أين..؟ أجابه بهدوء:
_ إلى شاطىء البحر..
هز السائق حاجبيه في دهشة وقال:
_في هذه الساعة ! نظر إليه مليا محاولا سبر أغواره..تراجع وهو يغمغم:
_حسنا كما تشاء!
فوق كتبان رمال باردة قفز رجل بذعر وسأل رفيقه:_
ما هذا..؟ اللعنة لقد كدت أسقط..هؤلاء المتشردون سحقا لهم..!
سلط رفيقه ضوء مصباحه.. وقال:
_ معك حق إنه متشرد يغط في نومه..مهلا أنظر إنه ليس متشردا..!
انحنى الصيادان وأمعنا في النظر وحاولا إيقاظ النائم ثم قال أحدهما بصوت مازح :
_ لعلها جثة..! وما لبث أن التقط قارورة فارغة وهتف بحدة :
_ما هذه؟ أجابه صاحبه بعد أن تفحصها على ضوء المصباح :
_قارورة دواء..! ثم أعاد النظر إلى الجسد المسجى فرأى زبدا على جانب شفتيه ..فقال بذعر:
_يا إلهي لقد انتحر..فلنبلغ السلطات هيا... فلنسرع ..! وهتفا بصوت واحد:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله ...إنا لله وإنا إليه راجعون..!
وركضا مسرعين إلى أقرب مركز للشرطة..!