صراعٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
كَدَأْبِ أبيِهمْ معَ عمتِهمْ مِنْ قبلُ، استولَى الأشقاءُ علَى نصيبِ أختِهمْ مِن الميراثِ، ضنُّوا بالأرضِ الخصيبةِ أنْ تخرجَ مِن حوزتِهمْ، أقسم كبيرهم أن أرضهم لن تمتد إليها يدٌ غريبة، ما دام فيه عرق ينبض، هدد بأن هذا الأعرج بالذات، لن يطأ الأرض بعرجته إلا على جثته، ولو تجرأ وفعلها لقطع له رجليه: السليمة قبل العرجاء.
عاد بذاكرته لأكثر من ثلاثين عامًا حين كانا على مقاعد الدراسة متجاوريْن، وكان هو أجهل من دابة، بينما الآخر شعلة من الذكاء، المعلمون يثنون عليه، والأولاد يخطبون وده، وينحازون في اللعب والمشاجرات إليه، بينما يتلقى هو الإهانات في المدرسة والبيت، إلى أن كان مصيره شأن أغلب أقرانه، التسرب من التعليم، والخلود إلى الطين.
نفسه تتقطع حسرات وهو منتصب يلهث في الحقل، تحت وهج الشمس الحارقة، وغيره ينعمون بالظل والراحة في الفصل، اعتاد أن يترصد لهم، ويتحرش بهم في غدوهم ورواحهم، ويفتعل المعارك لأتفه الأسباب، لعله يظفر بلكمة، أو لكزة تطفئ لهيب الغضب؛ الذي يشتعل بين جوانحه. كان يحلو له لي أذرعتهم الناعمة؛ التي لم تمس سوى الأقلام والورق، بقبضته الخشنة التي أكسبتها الفأس والأرض صلابة وقوة.
وهل ينسى هذا اليوم الذي تجرأ فيه غريمه، فرد عليه السباب والشتم؟ لقد طرحه أرضًا، وراح يرفسه بقدمه، والآخر يزحف متجنبًا الضربات، إلى أن سقط في بئر الساقية!
لحسن الحظ أخرجوه حيًّا؛ لكن بقدم مكسورة ظل يعرج بها بقية حياته، بينما نال هو علقة العمر؛ التي ستعلق بذاكرته ما دام حيًّا.
كانت الأخت الكبرى لستة ذكور، ماتت الأم ومرض الأب وقامت هي بخدمة الجميع، أفنت شبابها بين البيت الريفي الواسع بفنائه، وحجراته، وسكانه، وضيوفه، والزريبة بدوابها، والسطح بطيوره، والحقل بأشغاله، هدها التعب وأضناها المرض، حتى إذا بلغوا أشدهم واستووا واحدًا تلو الآخر، وتزوج كل منهم، كان القطار قد فاتها، فرضيت بالأعرج؛ الذي رفضته في شبابها، رغم العداوة التي يحملها له أخوها. كان يصغرها بكثير، وقد ترمل من زوجة سابقة، له منها بنين وبنات.
لسوءِ حظِّهمْ لم يكنْ زوجُ أختِهم سهلًا كزوجِ العمةِ الراحل، نازعَهم بعنادٍ وصبر في المحاكمِ، إلى أنْ أرغمَهم على الإذعانِ لتسليمِ نصيبِها كارهينَ، أفرزُوا لها أردأَ نصيبٍ مِن الأرضِ المشاعِ؛ سبخةً في طرفِ طريقٍ مهجورٍ، يمتدُّ العمرانُ لتدخلَ أرضُها كردونَ المبانِي؛ تتضاعفُ قيمتها فيأتيها رزقها رغًدا من كل مكان، وهم يعضون عليها الأنامل من الغيظ.
أحمد عبد السلام_مصر