voller-9 المدير العام
عدد المساهمات : 1148 تاريخ التسجيل : 05/08/2015 العمر : 54 الموقع : www.Facebook.com
| موضوع: مجلة حروف من الياسمين *** " العودة " بقلم / محمد دريوش الأحد أكتوبر 25, 2015 2:18 pm | |
| العودة.
ها أنا أعود لأجازف بما تبقى من شاعرية حرفي الأخرق. تراودني الكلمات عن نفسي وتقد قميصي من دبر، أهرب منها فلا أجد مفرا لمداد اليراع غير بياض الصفحات، أكتب بما أوتيت من بأس عل الفراغ يشرب روحي حتى الثمالة، أقدح الحرف بالحرف فتشتعل نيران الغيرة بالقصائد المهملة عمدا، أراها تتبرج لليلة القمراء والحرف المستأذب، هي تأتي دائما في كامل أناقتها لملاقاتي، تتبرعم كأزهار الأوركيدا على حائط مبكاي، تسفك دموعها حرفا فحرفا، وتتذوق سكرة الموت حتفا فحتفا، وتسيل من رفوف الذاكرة نزفا فنزفا...
أتراها تبقي على قليل خجل وهي تراقصني كما عهدتها؟ أتراها لا تزال تتذكر خطوات رقصتنا الأخيرة؟ أتراها تتذكر رائحة عرقي ولون ابتسامتي؟ أتراها تتذكر صدى تلك الضحكة النابعة من قرار غيبوبتي في صدى كلماتي؟..
لم أكن أعلم حين تركتها على قارعة دفاتري ذات غضب أنها ستعاند في العودة وستشق عصا الطاعة، لم أكن أعلم أن زواجنا كان زواج متعة انفردت فيه كلماتي بالعصمة، لم أكن أعلم انها تعمدت سفك مدادي الأحمر القاني حين راقصتها على أنغام قيثارة غجرية وداست على قدمي بثقل المفردات، لم أكن أعلم أنني عندما تركتها وانطلقت في رحلتي وراء أثر الأيائل ذات حلم لم يدم أكثر من ساعة كانت كفيلة كي يتوقف قلبها عن النبض باسمي...
أتذكر حين كنت غائبا عن الوعي كطفل صغير بقلب مغمض تماما، أتذكر ذلك البياض الناصع كجناح حمامة وسط نفق غرابي اللون، أتذكر ذلك القبس من النور كبساط سحري يحمل على صهوته آلاف الحروف والكلمات، أتذكر أنها كانت تتسابق كالنحل لتتسلل إلى صدري وتنعش عنفوان الجسد المسجى، أتذكر كل ذلك الآن وكأنني بعثت بعد موت قسري مات فيه الجسد وبقيت الروح ترعاه من أجل ميلاد جديد...
هل مت فعلا؟ هل أموت فعلا وتموت هذه الحروف كشجرة مهملة وسط صحراء قاحلة لم تنجب ثمارا لكي يتذوقها عابر كتاب بفعل القراءة؟ هل يسدل ستار الحياة وأنا لم أكمل بعد تمثيل مشهد مسرحيتها الأول؟ أعيب أحيانا على المؤلف تسارع أحداث الرواية، كان ممكنا أن يكون زمان الصحو أطول، كان ممكنا أن يدوم الحلم أكثر من ساعة واحدة، كان ممكنا أن أضل عن طريقي التي رسمها المؤلف بين دفتي كتابه فلا يجد لي أثرا كي يقبرني غريبا ووحيدا وباردا كقطعة ثلج بكأس راح بين يدي مخمور في الهزيع الأخير من الليل،
كان ممكنا أن يكون الأزرق السماوي لون الصلصال الذي صنعت منه، كان ممكنا أن يكون البحر شهما فلا يغرقني بين أمواجه، كان ممكنا أن أكون أميا لا أفقه القراءة والكتابة فلا أشغل نفسي بمعاقرة نبيذ الحرف الجامح، كان ممكنا أن أمتلك مكان القلب صخرة صلدة تحملني ولا أحملها كما حمل سيزيف صخرته فلا أحب ولا أحب وأنسى كأنني سحابة صيف عابرة، كان يمكن أن لا أكون الابن البكر لثنائي بشري لا يفقه لغة الطير، كان يمكن أن أكون فراشة ربيعية حطت على بتلات وردة بعد انبلاج الشرنقة فقطفها عاشق وأهداها
لمعشوقته كي تذبل وسط أوراق مذكراتها وترسم شكلا هندسيا غير مفهوم بلون أصفر كصفرة وجه ميت لم يحضر لحظته الأخيرة شعاع شمس، كان يمكن أن أكون كلمة من اعتراف محب أطلق سراحها وهو جاث على ركبتيه لتصطدم بجدار الصد، كان يمكن أن أكون توأما للحرف فأكتبه حينا ويكتبني حينا دون أن نمل من تبادل الأدوار، كان يمكن أن لا يكون للكلمات مذاق مر ومؤلم كلحظة الطلق، وصدى مدو كصرخة الوليد، كان ممكنا أن يقتلع الموت جذوري مرارا ذات سهو من ملكة الحياة، كان ممكنا أن لا يفلتني عند مفترق الحلم فلا أعانق الصحو مجددا...
ولكنني عشت وحييت الرواية كما جادت بها قريحة المؤلف، عشت وحييت بين دفتي كتاب تتراقص في طياته الخيبات وتتكاثر كالفطر، عشت وحييت وعايشت الأمراض والحروب والثورات الخديجة التي كشفت عن عورتها الريح، عشت وحييت ولا أذكر أنني قد استوقفني وهج الأضواء ولا أغرتني بهرجة المنابر، عشت وحييت منسيا كجسر خشبي نال منه الإهمال بسبب شياكة الإسمنت المسلح، ولدت بغتة عندما كانت أمي تطعم الحمام على سقيفة خضراء تماما، كانت وحيدة إلا من ظلها الذي أبى أن يتركها، وكان أبي يزرع الأحلام والسنابل، ولدت لأنه لم يكن من بد، ولدت لأن تسعة أشهر وسط سائل هلامي أمر مقزز، ولدت لأن المؤلف أراد أن تكون تلك الليلة المقمرة شاهدة على التحام الثنائي البشري وراء الغرفة المغلقة، ولدت ليكون لليأس والأمل شيء يختصمان فيه ويمارسان شغبهما في امتلاكه...هكذا ارتأى المؤلف!!!.
أي شيء أهديك أيها الحرف لترضى؟ أي مداد يليق بكتابة تفاصيلك كي تتوهج وتنتشي؟ عد أدراجك أيها الحرف وكن طيعا كما عهدتك! امنحني شرف وشغف ترصيع بياض الصفحات بأحجارك الكريمة! عد إلى حضني لتذيب جليد المساءات واعلم أنني ما تركتك إلا كرها... واعلم أنني سأكون دائما بانتظارك لأهدهدك وأربت على نوبات جنونك...واعلم أنني لا أكتبك لتحيا، بل أكتبك لأحيا...فلا حياة لي إلا بك ولك... | |
|